الذكاء الاصطناعي والإعلام- تحوّل جذري أم تلاعب بالرأي العام؟

المؤلف: هاني الظاهري08.22.2025
الذكاء الاصطناعي والإعلام- تحوّل جذري أم تلاعب بالرأي العام؟

يشهد عالم الإعلام تحولات جمة وسريعة الخطى، بوتيرة تفوق التصورات، مدفوعًا بقوة جبارة قد تفلت من زمام السيطرة في أية لحظة، ألا وهي الذكاء الاصطناعي المتسارع.

لم يعد السؤال المطروح اليوم هو: "هل يؤثر الذكاء الاصطناعي في الإعلام؟"، بل بات السؤال الأهم: "كيف سيعيد الذكاء الاصطناعي صياغة ملامح الإعلام وتشكيل مستقبله؟".

منذ عقد مضى، كان من الصعب التصديق بأن خوارزمية حاسوبية قادرة على كتابة تقرير صحفي بمنتهى الاحترافية، أو أن روبوتًا صوتيًا يستطيع إنتاج نشرة إخبارية بنبرة صوت بشرية طبيعية. أما اليوم، فقد غدا الذكاء الاصطناعي (AI) محررًا صحفيًا، ومخرجًا تلفزيونيًا، ومحللًا سياسيًا، بل وجمهورًا متفاعلًا أيضًا!

تعتمد "واشنطن بوست"، تلك المؤسسة الإعلامية العريقة ذات الصيت الذائع والتي يقرأ محتواها يوميًا في شتى أصقاع المعمورة، حاليًا على خوارزمية متطورة تُدعى "Heliograf" لكتابة تقارير رياضية وسياسية بصورة آنية ولحظية. وتجدر الإشارة إلى أن آلاف الأخبار تُكتب كل عام دون تدخل بشري، ولكنها لا تبدو آلية أو فاقدة للإحساس، بل تتسم بالدقة والتناسق والتوجه الملائم للجمهور المستهدف.

وفي أقصى الشرق، تحديدًا في الصين، أطلقت محطة "Xinhua" أول مذيع ذكاء اصطناعي منذ ثماني سنوات، وهو مذيع لا يعرف الكلل ولا يرتكب الأخطاء ولا يتغيب، ويطل على المشاهدين على مدار الساعة بنبرة صوت ثابتة ووجه لا تشوبه علامات الشيخوخة.

تصور أن خبرًا عاجلًا عن وقوع زلزال في منطقة معينة يُكتب في غضون ثوانٍ معدودة، ويُوزع على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، ويُترجم على الفور إلى لغات متعددة – كل ذلك دون أدنى تدخل بشري!

أما في ميدان المونتاج، فيستطيع الذكاء الاصطناعي في غضون دقائق معدودة تحليل لقطات فيديو لساعات طويلة، ومن ثم انتقاء أفضل المقاطع لإنتاج قصة مرئية آسرة، بينما يستغرق الإنسان ساعات طوال، بل ربما أيامًا، لإنجاز المهمة ذاتها!

والأهم من ذلك، أن الخوارزميات لا تقتصر على النشر فحسب، بل إنها تعرف من أنت، وما هي اهتماماتك، ومتى تميل إلى القراءة أو المشاهدة. فالمحتوى الإعلامي اليوم بات مصممًا خصيصًا ليلائم شخصية المستخدم وتاريخه الرقمي، وحتى مزاجه اللحظي. إذ يتنبأ الذكاء الاصطناعي بالأخبار التي قد تثير اهتمامك، ويقدمها لك بترتيب يزيد من احتمالية تفاعلك معها، مما يثير جدلًا واسعًا حول قضية جديدة وسؤال جوهري: هل هذا ذكاء حقيقي أم مجرد تلاعب بالمتلقي؟

إنه تساؤل أخلاقي ما زال يفرض نفسه بقوة، ولكن الإجابة عنه لن تغير من الواقع شيئًا جوهريًا.

نحن الآن أمام إعلام هجين، تتضافر فيه قدرات البشر مع إمكانات الآلة. خوارزميات تكتب وتنشر، وصحفيون يفكرون ويحللون. ومن يمتلك مهارات التعامل الاحترافي مع الذكاء الاصطناعي، لا يمتلك الأدوات فحسب، وإنما يملك أيضًا القدرة على التحكم في السرد، والزمن، وجذب الانتباه. وهنا، يجب أن يكون الذكاء البشري حاضرًا وبقوة أكثر من أي وقت مضى.

الصحفي اليوم ليس مهددًا بالانقراض كما قد يظن البعض، ولن يكون الوجبة الأخيرة على مائدة الذكاء الاصطناعي، ولكنه بحاجة ماسة إلى تطوير مهاراته في التعامل مع أدوات هذه التقنية المتطورة. لأن من يتقن استخدام هذه الأدوات باحترافية سينطلق قفزة مهنية هائلة، وسيصبح بلا شك أسرع وأكثر دقة وأكثر قدرة على تحليل البيانات وصناعة قصص عميقة ومؤثرة وأكثر نجاحًا وانتشارًا.

علينا أن ندرك كإعلاميين ومهتمين أن توظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام يمثل أكبر منعطف فلسفي وأخلاقي في تاريخ هذه المهنة العريقة. منعطف يعيد تعريف معنى "الخبر" و"الناشر" و"المتلقي". إنه فرصة هائلة وخطر كامن في آن واحد. فهل نحن على استعداد تام للتعامل مع حقبة زمنية يحركها إعلام لا يهدأ ولا يتردد ولا ينسى؟ أم أننا سنكتشف – بعد فوات الأوان – أننا وصلنا إلى الحفل بعد انصراف المدعوين إلى احتفال آخر؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة